بقلم / عبد العزيز احمد
تقول احدى نظريات (التعليم والتعلم) التي تدرس في كليات التربية والفلسفة، ان الانسان من احدى وسائل تعلمه ومعرفته، وسيلة تعرف بـ (الخطأ والصواب)، وتعني ان الفرد يتعرف على صواب الشيئ بعد ان يقع في خطأه، وبذلك يكون قد تعرف الى السلوك القويم في تعامله مع الاشياء التي اخطأ فيها من قبل. ومع ان ادوات التعليم في هذا العصر تطورت، الا ان هذه الوسيلة تعتبر حاضرة حتى الان كاحدى نظريات التعليم في حياة الانسان.
ولو ذكرنا قصة نستدل بها على فحوى الموضوع نجد ان سيدنا يونس عليه السلام خرج مغاضباً اهله عندما رفض القوم الاستماع للنصائح التي جاء بها، فابتلعه الحوت وعاش
في ظلمة بطنه فترة من الزمن فاصلح ذلك وعاد الى الله ، فبعودته خرج من الظلمة الى نور الحياة مرة اخرى وصلح قوم سيدنا يونس. كذلك تخاصم الارتريين في بدايات القرن الماضي حول حقوق بعضهم فابتلعتنا اثيوبيا ولم نصلح الاحوال فيما بيننا فضاع الناس والحقوق. الا انَ سيدنا يونس كان نبياً. فهل يا ترى نستفيد من تاريخنا لنصلح به الحاضر والمستقبل، ام هي احداث ليست لها قيمة عند ساستنا ونخبنا؟
هذا ما اريد ان أضعه امام طاولة المعارضة الارترية التي تتجه نحو المؤتمر الوطني القادم والذي من شأنه أن يضع رؤية لمرحلة انتقالية قادمة وكيفية تغيير النظام الجاسم على صدور الارتريين.
ولعل ما يجعل طرح التساؤلات في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الساحة الارترية, حساسية المؤتمر باعتباره تاريخيا في مضمون اهدافه ولربما لأنه الفرصة الاخيرة امام المعارضة الارترية.
واذا ابتدرت بسؤال حول.. هل سوف تكرر المعارضة تكريس اخطاء الماضي ام ستكون مسئولة امام التاريخ في تجاوز الخلافات البينية لتقف على المسار الصحيح من جديد؟ اذاً علينا طرف باب الماضي لنعرف ماذا حدث وكيف سرق الوطن من امام الثورة والشعب، لنجد أن السبب الرئيسي يعود الى الخلافات حول الحقوق وعدم اعتراف الاطراف الرئيسية لحقوق البعض, اضافة الى الانقسام الذي حدث في الثورة الارترية، واعتقد ان تكريس العقلية الدكتاتورية في السلوك السياسي من النخب الارترية يعتبر احد الاسباب الاهم في ازدياد الوضع تأزماً. فمثلاً عندما ناقش البرلمان الارتري الفدرالي الدستور رفض الطرف المسيحي بعض الحقوق الواردة فيه والذي كان مدعوما بقوة من الامبراطور هيلي سلاسي، وشكل ذلك اكبر ازمة في حينها، بل اول بؤرة لانعدام الثقة بين الساسة مما ادى الى تقسيم المجتمع الى جزئين، طرف يطالب الانضمام الى اثيوبيا وهذا يعني رفض الاستقلال ومثله (حزب الاندنت)، وطرف يبحث عن الاستقلال ومثلته الكتلة الاستقلالية. ويتضح لنا أن الطرفان كانا من الصعب التلاقي اذا رجعنا الى اهداف كليهما ، فكانت النتيجة احتلال اثيوبيا لارتريا، وبذلك فتح باب كبير لتكريس الخلافات والانقسام.
إن ما حدث من انشقاق في داخل البرلمان كان اثره اعظم حينما اتخذت الكتلة الاستقلالية خيار المواجهة عسكرياً للاحتلال الاثيوبي، حيث كان غالبية الثوار من المسلمين في حين رفض الطرف الاخر مفهوم الثورة التحررية، بل اسس قوة عسكرية تحت مفهوم الدفاع من اجل اثيوبيا الام (قوات الكماندوس) لمحاربة الثورة التحررية. ويعتبر ذلك انعكاساً حقيقاً لتلك الخلافات حول مفهوم كل طرف لماهية ارتريا ولونها التي ادخلت الساحة فيما بعد الى مراحل مختلفة في المسرح السياسي.
*
الاولى: هي مرحلة الثورة التحررية التي تعالت فيها روح المواجهة للاحتلال واستقطاب الشعب نحو ذلك المفهوم لازاحة الظلم واسترجاع الحقوق بالقوة، حيث نجحت جبهة التحرير الارترية في استقطاب قطاعات كبيرة من الشعب للانضمام اليها وانتشارها في الريف الارتري، الا ان الكثيرين من المسيحيين ظلوا حبيسين لافكار (حزب الاندنت) التي واجهت مفهوم الثورة التحررية بثورة معاكسة، في حين ان هذه الفترة لم تسلم من مرض الانقسام حيث نجد ان الساحة قسمت الى عدة مناطق عسكرية ولعله كان لسبب عسكري، الا ان نتائجه كانت عكسية لما خططت له قيادة الجبهة آنذاك. فدخلت مفاهيم جديدة في قاموس الثورة مثل القبلية والمناطقية وغيرها.. اضافة الى التحاق شخصيات تحمل افكاراً مختلفة ادخلت الثورة الى خلافات جانبية من النخب السياسية حول الافكار مثل (حزب العمل، حزب الشعب، البعث, الخ..). واستطيع ان اقول ان النخب الارترية انحرفت عن اهدافها التي حملتها لتحرير الارض والانسان ودخولها في نفق الافكار الاستعمارية لتتحارب في ما بينها والانشغال باستقطاب الشعب نحو افكارها مما اثر سلبا على العملية التحررية, بل انقسمت على نفسها وكل مجموعة تناضل من اجل اما الفكر الاستعماري او الفكر المناطقي والطائفي.
ومن الملاحظ في هذه المرحلة التحاق من كان يحمل السلاح ضدد الثورة وهذا يدل الى تغيير مفاهيم الماضي وتحررهم من افكار (الاندنت) الذي استقطب غاليبة المسيحيين نحو اقناعهم للانضمام لاثيوبيا، الا ان المسيحيين اتهموا قيادات في جبهة التحرير باستهدافهم وتصفية قياداتهم مما ادى الى تعميق وتكريس الانقسام من جهة وفقدان مزيد من عامل الثقة بين الطرفين الذي كان من شأنه ان يتقلص بانضمامهم الى الثورة التحررية من جهة ثانية.
* الثانية: هي تلك المرحلة التي دخلت فيها الثورة الى السودان جراء الحروب الاهلية التي كانت مدمرة للشباب والتي تعتبر اعلى مستويات الانقسام بين مجموعات تتجمع فيها الطابع الطائفي والقبلي والفكري وتحمل سلاحا ساما لقتل القضية الارترية، وبذلك فقدت جبهة التحرير الساحة امام الجبهة الشعبية التي رفعت لوحة الطائفية من بداياتها "راجع نحن واهدافنا". ومن المعلوم ان دخول الثورة الى السودان كان نتيجة الانقسامات التي صاحبت الثورة، ولكن ما زاد الوضع سوءاً خلافات النخب السياسية بعد دخولها السودان، فتجزأت الى فصائل ومجاميع لنجد الساحة امام وضع اخر يختلف مما كان عليه في السابق والذي كان هدفه الرئيسي "الحرية"، أما الوضع الجديد عبارة عن تناحر سياسي واتهامات متبادلة لا تعني للقضية الاساسية شيئاً ، واصبح موقف المجاميع قاتم الرؤية وزادت من انعدام الثقة بين اطياف المجتمع اضافة الى تباعد المسافة لتلاقي السياسة الارترية. وياتي ذلك مع انفراد الجبهة الشعبية بالساحة وتصفيتها لقيادات المعارضة واحداً تلو الاخر ليتسنى لها تنفيذ ما خططت له من اهداف دون عوائق حتى ظفرت بتحرير ارض الوطن منفردة لتصنع نظاماً منفرداً ومختلفاً لما كان يطمح اليه الشعب الارتري الذي قدم كل شيئ من اجل "الحرية"، وفي وقت عامل فيه النظام الشعب بظلم اجتماعي واضطهاد سياسي وديني وحرمانه من ابسط الحقوق والحريات.
ولو اضفنا الى ذلك فشل المعارضة الارترية بفعل شيئ امام الظلم والقهر المتزايد كل يوم في الداخل وحتى ان تصل فيما بينها الى ادنى صيغة تعاونية لتغييره او اقناع وتحييد المجتمع الدولي واصدقائها من التعامل مع النظام واظهار مأساة الشعب ومساعدتها في التخلص منه في وقت كان يحارب فيها دول الجوار لتعيد الثقة بنفسها وثقة الشعب فيها. الا انها لم تستفيد في تعاطيها السياسي والنضالي من نظرية "الخطأ والصواب" لتصحيح مسارها النضالي, بدليل انها لم تستطيع في مؤتمراتها العديدة خلال العشرون عاما الماضية من الوصول الي شيئ. في حين اننا رأينا مزيدا من الخلافات وتفريخ احزاب جديدة وخسرانها لاصدقائها في المنطقة حيث كان السودان اكبر صديق للمعارضة الارترية لكنه اغلق مكاتبها ومنع نشاطها عندما استطاع النظام الارتري قطع الطريق مرة اخرى امام المعارضة وتحسين علاقته مع الحكومة السودانية التي انقذته من الموت.
* المرحلة الاخيرة: وهي التي اظهرت فيها المعارضة شيئاً من التقارب والتلاقي والتصالح، الا انها في نفس الوقت لم تستيطع الوصول الى اتفاقات مرضية، حيث كانت تخرج من لقائاتها منقسمة فيما بينها، ومن الملاحظ في هذه المرحلة ان هناك اطرافا لها الرغبة في التقارب لتشكيل رؤى مشتركة, ويبدو ان هذا السلوك كان صعباً امام تنظيمات ورثت خلافات عميقة ومتجزرة. ولعل الاصلاح يحتاج وقتا اضافياً والى قيادات اكفأ تختلف في تفكيرها وطرق تعاملها السياسي مع متطلبات المرحلة لايجاد ارضية سياسية تتقف عليها الوان الطيف السياسي لتكوين دولة التعايش.
وربما الذي كان يحدث في مؤتمرات المعارضة يعود سببه الى ظلال الماضي اثناء الحوار ليشكل عقبة صعبة التجاوز لتعود الى سالف عهدها الخلافي. ومن الغريب ايضا في هذه الفترة التي يتزمر فيها الشارع الارتري من كثرة التنظيمات والمسميات السياسية تخرج الينا تنظيمات جديدة بعضها قومية وبعضها مناطقية وبعضها غير معلومة الملامح.
ومن محاسن الفترة الاخيرة ظهور نشاط واسع لقطاعات مؤسسات المجتمع المدني حيث تشارك في وضعها مسار التلاقي السياسي للمعارضة، وشكلت عاملاً مهما في الضغط الايجابي على المعارضة لعلها تفلح هذه المرة, ويدل ذلك الى ازدياد الوعي للمثقف الارتري. اضافة الى العوامل الحديثة والادوات الجديدة للمناهضة ضد الانظمة المستبدة وتغييرها التي عرفت بموجة شباب التغيير واجتياحها المنطقة برمتها ونشاطها لتغيير الانظمة الدكتاتورية, ولعل هذا الاتجاه الذي يعمل خارج نطاق المعارضة قد يمثل عاملاً احدث للضغط على تصحيح مسار المعارضة والخروج من دائرة الخلافات الى اتفاق فعلي لتغيير النظام وايجاد بديل عادل. وهذا لو استفادت المعارضة مما يحدث من تغيرات في الساحة الارترية وعدم متابعتها لذلك والتعامل معه بمفهوم جديد سوف يفقدها الساحة وربما نرى شعبا يتظاهر من اجل اسقاط المعارضة لبناء معارضة تسقط النظام.
ولكن .. هل ستتجاوز المعارضة الارترية هذه المرحلة ام سوف تمارس النخب هوايتها المتوارثة... الاختلاف والانقسام وضياع الفرص من بين يديها؟
وبعد هذه القراءة المختصرة لما يحدث في المسرح السياسي الارتري نضع امام المؤتمر القادم عدة اسئلة مهمة..
* بماذا سيخرج المؤتمر القادم بعد نحو خمسون عاما من الخلافات حول كيفية التعايش في دولة واحدة؟
*هل ستتفق النخب التي تقود المعارضة على رؤية تحفظ حقوق وحريات الشعب الارتري، وهل تتفق حول آلية التغيير ام ستعود الى خمسينيات القرن الماضي؟
*هل ستقدم المعارضة مصلحة الشعب الارتري المقهور من النظام الطائفي ام سيبحثون على المصالح الحزبية الضيقة؟
*هل يخرج المؤتمر القادم بحلول ترضي المجتمع ام هناك ما تخفيه الايام تحت طاولة كل تنظيم لنسمع دوي انفجاره في المؤتمر؟
* انه المؤتمر الاخير للمعارضة حتى تظهر للشعب انها مسئولة امام التاريخ، وانها الفرصة الاخيرة للتوصل الى صيغة مناسبة لاقتلاع النظام الفاسد في ارتريا.
*انها الفرصة المناسبة لاستعادة الروح والامل الى المجتمع الارتري في الداخل والخارج، الى من هم يكتوون بنار اللجؤ في معسكرات اللاجئين ، الى الاطفال المحرومون من التعليم والى الارامل اللاتي فقدن ازواجهن من اجل الحرية، والى ابناء الشهداء وامهات الشباب الهارب من جحيم الشعبية.
لنقول لهم:
لا تكرروا اخطاء الماضي حتى لا تكون جحيم المستقبل!!
تقول احدى نظريات (التعليم والتعلم) التي تدرس في كليات التربية والفلسفة، ان الانسان من احدى وسائل تعلمه ومعرفته، وسيلة تعرف بـ (الخطأ والصواب)، وتعني ان الفرد يتعرف على صواب الشيئ بعد ان يقع في خطأه، وبذلك يكون قد تعرف الى السلوك القويم في تعامله مع الاشياء التي اخطأ فيها من قبل. ومع ان ادوات التعليم في هذا العصر تطورت، الا ان هذه الوسيلة تعتبر حاضرة حتى الان كاحدى نظريات التعليم في حياة الانسان.
ولو ذكرنا قصة نستدل بها على فحوى الموضوع نجد ان سيدنا يونس عليه السلام خرج مغاضباً اهله عندما رفض القوم الاستماع للنصائح التي جاء بها، فابتلعه الحوت وعاش
في ظلمة بطنه فترة من الزمن فاصلح ذلك وعاد الى الله ، فبعودته خرج من الظلمة الى نور الحياة مرة اخرى وصلح قوم سيدنا يونس. كذلك تخاصم الارتريين في بدايات القرن الماضي حول حقوق بعضهم فابتلعتنا اثيوبيا ولم نصلح الاحوال فيما بيننا فضاع الناس والحقوق. الا انَ سيدنا يونس كان نبياً. فهل يا ترى نستفيد من تاريخنا لنصلح به الحاضر والمستقبل، ام هي احداث ليست لها قيمة عند ساستنا ونخبنا؟
هذا ما اريد ان أضعه امام طاولة المعارضة الارترية التي تتجه نحو المؤتمر الوطني القادم والذي من شأنه أن يضع رؤية لمرحلة انتقالية قادمة وكيفية تغيير النظام الجاسم على صدور الارتريين.
ولعل ما يجعل طرح التساؤلات في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الساحة الارترية, حساسية المؤتمر باعتباره تاريخيا في مضمون اهدافه ولربما لأنه الفرصة الاخيرة امام المعارضة الارترية.
واذا ابتدرت بسؤال حول.. هل سوف تكرر المعارضة تكريس اخطاء الماضي ام ستكون مسئولة امام التاريخ في تجاوز الخلافات البينية لتقف على المسار الصحيح من جديد؟ اذاً علينا طرف باب الماضي لنعرف ماذا حدث وكيف سرق الوطن من امام الثورة والشعب، لنجد أن السبب الرئيسي يعود الى الخلافات حول الحقوق وعدم اعتراف الاطراف الرئيسية لحقوق البعض, اضافة الى الانقسام الذي حدث في الثورة الارترية، واعتقد ان تكريس العقلية الدكتاتورية في السلوك السياسي من النخب الارترية يعتبر احد الاسباب الاهم في ازدياد الوضع تأزماً. فمثلاً عندما ناقش البرلمان الارتري الفدرالي الدستور رفض الطرف المسيحي بعض الحقوق الواردة فيه والذي كان مدعوما بقوة من الامبراطور هيلي سلاسي، وشكل ذلك اكبر ازمة في حينها، بل اول بؤرة لانعدام الثقة بين الساسة مما ادى الى تقسيم المجتمع الى جزئين، طرف يطالب الانضمام الى اثيوبيا وهذا يعني رفض الاستقلال ومثله (حزب الاندنت)، وطرف يبحث عن الاستقلال ومثلته الكتلة الاستقلالية. ويتضح لنا أن الطرفان كانا من الصعب التلاقي اذا رجعنا الى اهداف كليهما ، فكانت النتيجة احتلال اثيوبيا لارتريا، وبذلك فتح باب كبير لتكريس الخلافات والانقسام.
إن ما حدث من انشقاق في داخل البرلمان كان اثره اعظم حينما اتخذت الكتلة الاستقلالية خيار المواجهة عسكرياً للاحتلال الاثيوبي، حيث كان غالبية الثوار من المسلمين في حين رفض الطرف الاخر مفهوم الثورة التحررية، بل اسس قوة عسكرية تحت مفهوم الدفاع من اجل اثيوبيا الام (قوات الكماندوس) لمحاربة الثورة التحررية. ويعتبر ذلك انعكاساً حقيقاً لتلك الخلافات حول مفهوم كل طرف لماهية ارتريا ولونها التي ادخلت الساحة فيما بعد الى مراحل مختلفة في المسرح السياسي.
*
الاولى: هي مرحلة الثورة التحررية التي تعالت فيها روح المواجهة للاحتلال واستقطاب الشعب نحو ذلك المفهوم لازاحة الظلم واسترجاع الحقوق بالقوة، حيث نجحت جبهة التحرير الارترية في استقطاب قطاعات كبيرة من الشعب للانضمام اليها وانتشارها في الريف الارتري، الا ان الكثيرين من المسيحيين ظلوا حبيسين لافكار (حزب الاندنت) التي واجهت مفهوم الثورة التحررية بثورة معاكسة، في حين ان هذه الفترة لم تسلم من مرض الانقسام حيث نجد ان الساحة قسمت الى عدة مناطق عسكرية ولعله كان لسبب عسكري، الا ان نتائجه كانت عكسية لما خططت له قيادة الجبهة آنذاك. فدخلت مفاهيم جديدة في قاموس الثورة مثل القبلية والمناطقية وغيرها.. اضافة الى التحاق شخصيات تحمل افكاراً مختلفة ادخلت الثورة الى خلافات جانبية من النخب السياسية حول الافكار مثل (حزب العمل، حزب الشعب، البعث, الخ..). واستطيع ان اقول ان النخب الارترية انحرفت عن اهدافها التي حملتها لتحرير الارض والانسان ودخولها في نفق الافكار الاستعمارية لتتحارب في ما بينها والانشغال باستقطاب الشعب نحو افكارها مما اثر سلبا على العملية التحررية, بل انقسمت على نفسها وكل مجموعة تناضل من اجل اما الفكر الاستعماري او الفكر المناطقي والطائفي.
ومن الملاحظ في هذه المرحلة التحاق من كان يحمل السلاح ضدد الثورة وهذا يدل الى تغيير مفاهيم الماضي وتحررهم من افكار (الاندنت) الذي استقطب غاليبة المسيحيين نحو اقناعهم للانضمام لاثيوبيا، الا ان المسيحيين اتهموا قيادات في جبهة التحرير باستهدافهم وتصفية قياداتهم مما ادى الى تعميق وتكريس الانقسام من جهة وفقدان مزيد من عامل الثقة بين الطرفين الذي كان من شأنه ان يتقلص بانضمامهم الى الثورة التحررية من جهة ثانية.
* الثانية: هي تلك المرحلة التي دخلت فيها الثورة الى السودان جراء الحروب الاهلية التي كانت مدمرة للشباب والتي تعتبر اعلى مستويات الانقسام بين مجموعات تتجمع فيها الطابع الطائفي والقبلي والفكري وتحمل سلاحا ساما لقتل القضية الارترية، وبذلك فقدت جبهة التحرير الساحة امام الجبهة الشعبية التي رفعت لوحة الطائفية من بداياتها "راجع نحن واهدافنا". ومن المعلوم ان دخول الثورة الى السودان كان نتيجة الانقسامات التي صاحبت الثورة، ولكن ما زاد الوضع سوءاً خلافات النخب السياسية بعد دخولها السودان، فتجزأت الى فصائل ومجاميع لنجد الساحة امام وضع اخر يختلف مما كان عليه في السابق والذي كان هدفه الرئيسي "الحرية"، أما الوضع الجديد عبارة عن تناحر سياسي واتهامات متبادلة لا تعني للقضية الاساسية شيئاً ، واصبح موقف المجاميع قاتم الرؤية وزادت من انعدام الثقة بين اطياف المجتمع اضافة الى تباعد المسافة لتلاقي السياسة الارترية. وياتي ذلك مع انفراد الجبهة الشعبية بالساحة وتصفيتها لقيادات المعارضة واحداً تلو الاخر ليتسنى لها تنفيذ ما خططت له من اهداف دون عوائق حتى ظفرت بتحرير ارض الوطن منفردة لتصنع نظاماً منفرداً ومختلفاً لما كان يطمح اليه الشعب الارتري الذي قدم كل شيئ من اجل "الحرية"، وفي وقت عامل فيه النظام الشعب بظلم اجتماعي واضطهاد سياسي وديني وحرمانه من ابسط الحقوق والحريات.
ولو اضفنا الى ذلك فشل المعارضة الارترية بفعل شيئ امام الظلم والقهر المتزايد كل يوم في الداخل وحتى ان تصل فيما بينها الى ادنى صيغة تعاونية لتغييره او اقناع وتحييد المجتمع الدولي واصدقائها من التعامل مع النظام واظهار مأساة الشعب ومساعدتها في التخلص منه في وقت كان يحارب فيها دول الجوار لتعيد الثقة بنفسها وثقة الشعب فيها. الا انها لم تستفيد في تعاطيها السياسي والنضالي من نظرية "الخطأ والصواب" لتصحيح مسارها النضالي, بدليل انها لم تستطيع في مؤتمراتها العديدة خلال العشرون عاما الماضية من الوصول الي شيئ. في حين اننا رأينا مزيدا من الخلافات وتفريخ احزاب جديدة وخسرانها لاصدقائها في المنطقة حيث كان السودان اكبر صديق للمعارضة الارترية لكنه اغلق مكاتبها ومنع نشاطها عندما استطاع النظام الارتري قطع الطريق مرة اخرى امام المعارضة وتحسين علاقته مع الحكومة السودانية التي انقذته من الموت.
* المرحلة الاخيرة: وهي التي اظهرت فيها المعارضة شيئاً من التقارب والتلاقي والتصالح، الا انها في نفس الوقت لم تستيطع الوصول الى اتفاقات مرضية، حيث كانت تخرج من لقائاتها منقسمة فيما بينها، ومن الملاحظ في هذه المرحلة ان هناك اطرافا لها الرغبة في التقارب لتشكيل رؤى مشتركة, ويبدو ان هذا السلوك كان صعباً امام تنظيمات ورثت خلافات عميقة ومتجزرة. ولعل الاصلاح يحتاج وقتا اضافياً والى قيادات اكفأ تختلف في تفكيرها وطرق تعاملها السياسي مع متطلبات المرحلة لايجاد ارضية سياسية تتقف عليها الوان الطيف السياسي لتكوين دولة التعايش.
وربما الذي كان يحدث في مؤتمرات المعارضة يعود سببه الى ظلال الماضي اثناء الحوار ليشكل عقبة صعبة التجاوز لتعود الى سالف عهدها الخلافي. ومن الغريب ايضا في هذه الفترة التي يتزمر فيها الشارع الارتري من كثرة التنظيمات والمسميات السياسية تخرج الينا تنظيمات جديدة بعضها قومية وبعضها مناطقية وبعضها غير معلومة الملامح.
ومن محاسن الفترة الاخيرة ظهور نشاط واسع لقطاعات مؤسسات المجتمع المدني حيث تشارك في وضعها مسار التلاقي السياسي للمعارضة، وشكلت عاملاً مهما في الضغط الايجابي على المعارضة لعلها تفلح هذه المرة, ويدل ذلك الى ازدياد الوعي للمثقف الارتري. اضافة الى العوامل الحديثة والادوات الجديدة للمناهضة ضد الانظمة المستبدة وتغييرها التي عرفت بموجة شباب التغيير واجتياحها المنطقة برمتها ونشاطها لتغيير الانظمة الدكتاتورية, ولعل هذا الاتجاه الذي يعمل خارج نطاق المعارضة قد يمثل عاملاً احدث للضغط على تصحيح مسار المعارضة والخروج من دائرة الخلافات الى اتفاق فعلي لتغيير النظام وايجاد بديل عادل. وهذا لو استفادت المعارضة مما يحدث من تغيرات في الساحة الارترية وعدم متابعتها لذلك والتعامل معه بمفهوم جديد سوف يفقدها الساحة وربما نرى شعبا يتظاهر من اجل اسقاط المعارضة لبناء معارضة تسقط النظام.
ولكن .. هل ستتجاوز المعارضة الارترية هذه المرحلة ام سوف تمارس النخب هوايتها المتوارثة... الاختلاف والانقسام وضياع الفرص من بين يديها؟
وبعد هذه القراءة المختصرة لما يحدث في المسرح السياسي الارتري نضع امام المؤتمر القادم عدة اسئلة مهمة..
* بماذا سيخرج المؤتمر القادم بعد نحو خمسون عاما من الخلافات حول كيفية التعايش في دولة واحدة؟
*هل ستتفق النخب التي تقود المعارضة على رؤية تحفظ حقوق وحريات الشعب الارتري، وهل تتفق حول آلية التغيير ام ستعود الى خمسينيات القرن الماضي؟
*هل ستقدم المعارضة مصلحة الشعب الارتري المقهور من النظام الطائفي ام سيبحثون على المصالح الحزبية الضيقة؟
*هل يخرج المؤتمر القادم بحلول ترضي المجتمع ام هناك ما تخفيه الايام تحت طاولة كل تنظيم لنسمع دوي انفجاره في المؤتمر؟
* انه المؤتمر الاخير للمعارضة حتى تظهر للشعب انها مسئولة امام التاريخ، وانها الفرصة الاخيرة للتوصل الى صيغة مناسبة لاقتلاع النظام الفاسد في ارتريا.
*انها الفرصة المناسبة لاستعادة الروح والامل الى المجتمع الارتري في الداخل والخارج، الى من هم يكتوون بنار اللجؤ في معسكرات اللاجئين ، الى الاطفال المحرومون من التعليم والى الارامل اللاتي فقدن ازواجهن من اجل الحرية، والى ابناء الشهداء وامهات الشباب الهارب من جحيم الشعبية.
لنقول لهم:
لا تكرروا اخطاء الماضي حتى لا تكون جحيم المستقبل!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق