اليومُ وفي طريق عودتي من العمل صدمني
اخٌ كريم بخبر الوفاة دون مقدمات او مراعاة لإختيار توقيت ، والحقيقة نادراً ما أحزن لفراق أحد ، *وذلك ليس لقسوة في القلب أو إنعدام رحمة كما يقال* ، ولكن يقيني لا احد
باق في هذه الدنيا وكلنا راحلون مفارقون ، مع هذا اليقين الثابت ، دهمٓني حزنُ عميق برحيل استاذنا موسى ارحوا ، وسال من العين ماؤها
اخٌ كريم بخبر الوفاة دون مقدمات او مراعاة لإختيار توقيت ، والحقيقة نادراً ما أحزن لفراق أحد ، *وذلك ليس لقسوة في القلب أو إنعدام رحمة كما يقال* ، ولكن يقيني لا احد
باق في هذه الدنيا وكلنا راحلون مفارقون ، مع هذا اليقين الثابت ، دهمٓني حزنُ عميق برحيل استاذنا موسى ارحوا ، وسال من العين ماؤها
*ليس الذي يجري من العين ماؤها .... ولكنها روح تسيل*
نقفُ اليوم بمشاعر حزنِ عميقة تختلطُ وتشتعلُ فيها الحسرة والألم من فراق رجلٍ باًمة ، شخصية فريدة جسدت حياتهِ كل أشكال القوة والصبر والنمُوذج الذي يحتذى ، جاء رحيل الاستاذ الحاج موسى ارحو في وقت صعب للغاية ، وفي حوجة ماسة لعلمه واخلاقه النادرة ، والحقيقة كان استاذنا مدرسة متفردة ، إجتمعت فيه كل الخصال الطيبة ، وفوق هذا وذاك كان ذو بشاشة مستمرة دائمة ؛ فلن تجده عكران المزاج أو عابس الوجه مهما كانت عليه خطوب الحياة ، يصافحك بكل تواضعِ وترحاب ، يسألك عن الاسم ليُكمل لك باقي الأنساب ، لايحب شيئا من الحياة غير التعليم ، ولايحظى امراً باهتمام عنده مثل التحصيل الاكاديمي ، فهذا غاية مشروعة ومحور رسالته في الحياة ، اهتم به مبكراً ، قطع الصحراء ماشي حاف القدمين لينال الدرجات العلى من الشهادات من مؤسسات علمية مشهودة مرموقة ، فلم تقف الظروف حائلاً بين الطموح ، ثم اختار الطريق ذاته لمجتمعه وشعبه ، وسعى مع غيره ليؤسس منبر تعليمي ، عرف فيما بعد بجهاز التعليم ، تلك المؤسسة صاحبة الدور المشهود في تعليم المجتمع الارتري ، ولم يقف دوره عند الأداء الرسمي ، بل فتح دار منزله يستقبلُ الطلاب ويحثهم على التحصيل ويتقاسم معهم لقمة العيش ، *لم يعرف استاذنا موسى بين الناس بكثرة المال وإنما عرف بحبه للتعليم فقط* ، بل يمكن لي المجازفة في القولِ ؛ لم اجد عنده إهتمام متصل بأمر لايفتر مثل قضيةُ التعليم ، فقد كان مدركا لأهمية التعليم ومستوعباً تحدياته .
لم تقف مساهمات الحاج موسى ارحوا في التاريخ المعاصر عند بوابة التعليم ، وإنما كان له ايضاً قدمُ سبقٍ في النضال والتحرير ، وكان حظه من ذلك السجون والمنافي والتعذيب ، كيف لا وهو من المؤسسيين والمنخرطين مبكرا في حركة تحرير ارتريا ، وطاله السجن في داخل اسمرا ، ثم نفياً وإبعاداً إلى جزر دهلك ، فقضى فيها عامين كاملين أو يزيد ، ثم حكى لي ذات مرة قصة مثيرة عجيبة ، مفاد القصة كان مُمسك التأمين العسكري للمنطقة من الاخوة المسيحيين ، وكان نظام الحبس ان يربط بين مسلم ومسيحي بجنزير واحد ، حتى يصعب التحرك ، *وذلك بإعتقادهم ان إختلاف الطبائع والاعتقادات والسلوكيات سيمنع التعاون* ، وكان من حظ الاستاذ موسي ارحوا صديق الربط متسامح ، فكان يرضى بكل تحركاته وصلواته ، غير انه كان يتضايق منه في صلاة الصُبح ، لما لصلاة الصبح من مشقة و ( تطيير ) نوم ، وهذه ليست القصة وانما هي تفاعل وتفهم الحرس للأستاذ موسى ارحوا ، ووصل امر التعاون ان طلب الرجل من استاذنا ارحوا امرأ غريبا ، وهو ان الرجل رغم مسيحيته كان ذا ميل وحب فطري للإسلام ، وكان شديد الإعجاب بقصة الآذان للصلوات ، وكان طلبه ان يقلد له الأستاذ موسي صوت مؤذن مشهور جميل الصوت ، فباءت محاولاته التقليدية بالفشل ، وكلما حاول التجربة رده كان بأن الفرق كبير ، وإعترف استاذنا بان صوته قد خذله خذلاناً عظيما وفوت عليه فرصة قد لا تتكرر ، مع ان الدرس قد انتهى ، *ولكن دورس وتأملات الأستاذ لم تنتهي ، وخرج منها بمعاني عظيمة النفع والفائدة ، منها ان الإسلام في جوهره إحسان وتعامل ومعاملة* ، ( الدين معاملة ) ، والمطلوب فقه التدين لتنزيل الدين ، فلا يمكن ان تقيم الدين دون ان تفقهه ، وكثيراً ما يخسر الناس مساحات بسبب غياب الفقه المطلوب ، *ثم ان الأمر متصل بسماحة السجان ومزاجه الجميل ، كيف يشترط صوت الآذان الجميل كعربون فكاك او تهريب* ، وفي هذا دلالة ان الاخوة المسيحيين نجد في بعضهم سماحة وقلب فطري حنين .
اول مرة إلتقيتُ فيها بالأستاذ موسى ارحوا كان صيف 1997 ، عام الشهادة الثانوية بالنسبة لي ، وكان مكان الالتقاء ارض القضارق *قضروف الخير* فزرت الأستاذ وفي لهفة وشوق كبير لملاقاة رجلٍ احبه الخلق دون إستثناء ، ورجل سمعت عنه الكثير من الآباء والمثقفين ، فكانت الدهشة لحظة السلام وهو يحضنك كأب حنين كانه يعرفك من قبل ، فعَرفت نفسي وذكرت له اعمامي وخاصة عمي الذي إغتالته يد العدو الأكبر ، *فلم يسكت الأستاذ وهو يردد كلمة بُب بُب ، وليته سكت* ، والكلمة تقال كدلالة على الإعجاب وتقدير المكانة لشخص ما .
على المستوى الشخصي حظيتُ بمعاملة خاصة وإهتمام ملحوظ من قبل استاذنا موسى ارحوا ، *فكان يسأل عني وتصلني دعواته من بعيد ، ويشجعني ويَهون علي الطريق من قريب ، فلست مبالغا ان قلت فقد كان لي الأستاذ موسى سنداً واباً حقيقيا ، ولا شك بفقده فقدتُ ذاك السند وانكشف ظهري المستور سنوات وراء ذاك الظهر الكبير .*
بلاشك إسم الأستاذ موسى ارحوا سيُكتب على صفحات من ذهب ، فلئن غادر هو الحياة ، لكنه ترك اثراً باقيا في الحياة ، وهو ما ينفع الناس ، وترك أجيال متعلمة نالت من علمه وخيره الكثير ، *عاش استاذنا حياة الكبار ورحل رحيل الأتقياء الأطهار* ، وترك من ابنائه ذرية بررة ، خيار من خيار ، ذرية لم تكتفي او تتكيء على النسل الشريف ، بل هي الأخرى عافصت الحياة وتكبدت مشاق التعليم ، فكانت وفيّة لنذر والد نذر نفسه للتعليم .
حياة الأستاذ والمربي الكبير موسى ارحوا حياة حافلة بالعطاء والمساهمة في شتي الميادين ، حياة بدأت بالعلم وانتهت بالبحث والتأليف والنظر المعرفي ، كما اهتم استاذنا موسى ارحوا بقضايا المجتمع الارتري بصفة عامة والمجتمع الاساورتاوي بصفة خاصة ، وفي هذا الإطار جاء كتابه الموسوعة *بنو أساور عبر التاريخ* ، وتميز الكتاب كمساهمة معرفية بالعمق والإتزان والموضوعية .
هذه المساهمة المتواضعة ليس المقصد منها تغطية حياة وجوانب الأستاذ موسى ارحو ، فذاك إمرُ محال في نظري ، *كما ان قلمي لم يتعود بعد ان يكتب عن الشخصيات الكبار* ، ومن ناحية اعتقد بأن هناك من هو اكفأ وأجدر بالتوثيق والكتابة عن الراحل ، ولاشك معارف الأستاذ وتلاميذه سيرفِدوننا بمقالات ثرة تُؤرخ لحياة العلامة موسى ارحوا ، *ونحسب الإبن البار الأستاذ ناصر موسى ارحوا من زمرة المجتهدين الذين ينتظر منهم الكثير .*
الفقد فقد كبير والمصاب جلل ،
*حلف الزمانُ ليأتين بمثله* ***
*حنُثت يمينكُ يازمانُ فكفِرِ*
برحيل الحاج موسى ارحو خسرت الدعوة الإسلامية ومنابر التوعية وجمعيات التعليم الكثير ، وفقدت رمزاً ومناصراً صلباً ، لم يتراجع كما تراجع الكثيرون في زمن الفتن والامتحانات ، المهم لا نقول إلا ما يرضى الله ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم اغفر لعبدك السمح الفقير موسى ارحوا ، وادخله فسيح جناتك ، وألهم أهله وذويه الصبر وحسن العزاء .
بقلم / عبدالواسع محمد شفا
الخرطوم / 22/06/2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق