28‏/06‏/2020

اُستاذنا موسى ارحو ... والرحيل المر ... !

 اليومُ وفي طريق عودتي  من العمل صدمني
اخٌ كريم بخبر  الوفاة دون مقدمات او مراعاة لإختيار توقيت  ،  والحقيقة نادراً ما أحزن لفراق أحد ،  *وذلك ليس لقسوة في القلب أو إنعدام رحمة كما يقال* ، ولكن يقيني لا احد
باق في هذه الدنيا  وكلنا راحلون مفارقون  ، مع هذا اليقين الثابت  ، دهمٓني حزنُ عميق  برحيل استاذنا موسى ارحوا ، وسال من العين ماؤها

*ليس الذي يجري من العين ماؤها  .... ولكنها روح تسيل*

    نقفُ اليوم بمشاعر  حزنِ عميقة تختلطُ وتشتعلُ فيها الحسرة والألم  من فراق رجلٍ باًمة ، شخصية فريدة  جسدت حياتهِ كل أشكال القوة والصبر  والنمُوذج الذي يحتذى ، جاء رحيل الاستاذ الحاج  موسى ارحو في وقت صعب للغاية ، وفي حوجة ماسة لعلمه واخلاقه النادرة ، والحقيقة كان استاذنا مدرسة متفردة ، إجتمعت فيه  كل الخصال الطيبة ، وفوق هذا وذاك كان ذو بشاشة مستمرة دائمة ؛ فلن تجده عكران المزاج أو عابس الوجه مهما كانت عليه خطوب الحياة ، يصافحك بكل تواضعِ وترحاب ، يسألك عن الاسم ليُكمل لك باقي الأنساب ،  لايحب شيئا من الحياة غير التعليم ، ولايحظى امراً  باهتمام عنده  مثل التحصيل الاكاديمي ، فهذا غاية مشروعة ومحور رسالته في الحياة ، اهتم به مبكراً ، قطع الصحراء ماشي حاف القدمين لينال الدرجات العلى من الشهادات من مؤسسات علمية مشهودة مرموقة ، فلم تقف الظروف حائلاً بين الطموح ،  ثم اختار الطريق ذاته لمجتمعه وشعبه  ، وسعى مع غيره ليؤسس منبر تعليمي ، عرف فيما بعد بجهاز التعليم ،  تلك المؤسسة صاحبة الدور المشهود في تعليم المجتمع الارتري ،  ولم يقف دوره عند الأداء الرسمي ، بل فتح دار  منزله يستقبلُ الطلاب ويحثهم على التحصيل ويتقاسم معهم لقمة العيش ، *لم يعرف استاذنا موسى بين الناس بكثرة المال وإنما عرف بحبه للتعليم فقط* ، بل يمكن لي المجازفة في القولِ ؛ لم اجد عنده إهتمام متصل بأمر لايفتر مثل قضيةُ التعليم ، فقد كان مدركا لأهمية التعليم ومستوعباً تحدياته  .

لم تقف مساهمات الحاج موسى ارحوا  في التاريخ المعاصر عند بوابة التعليم ،  وإنما كان له ايضاً  قدمُ سبقٍ في النضال والتحرير ، وكان حظه من ذلك السجون والمنافي والتعذيب ، كيف لا وهو من المؤسسيين والمنخرطين مبكرا في حركة تحرير ارتريا ، وطاله السجن في داخل اسمرا ، ثم نفياً وإبعاداً إلى جزر دهلك  ، فقضى فيها عامين كاملين أو يزيد  ،  ثم حكى لي ذات مرة قصة مثيرة عجيبة ، مفاد القصة كان مُمسك التأمين العسكري للمنطقة من الاخوة المسيحيين ، وكان نظام الحبس ان يربط بين مسلم ومسيحي بجنزير واحد ، حتى يصعب التحرك ، *وذلك  بإعتقادهم ان إختلاف الطبائع والاعتقادات  والسلوكيات سيمنع التعاون*  ، وكان من حظ الاستاذ موسي ارحوا صديق  الربط متسامح ، فكان يرضى بكل تحركاته وصلواته ، غير انه كان يتضايق منه في صلاة الصُبح ، لما لصلاة الصبح من مشقة و ( تطيير ) نوم ، وهذه ليست القصة وانما هي تفاعل وتفهم الحرس للأستاذ موسى ارحوا ، ووصل امر التعاون ان طلب الرجل من استاذنا ارحوا امرأ غريبا ، وهو ان الرجل رغم مسيحيته كان ذا ميل وحب فطري للإسلام ، وكان شديد الإعجاب بقصة الآذان للصلوات ، وكان طلبه ان يقلد له الأستاذ موسي صوت مؤذن مشهور  جميل الصوت ،  فباءت محاولاته التقليدية بالفشل ، وكلما حاول التجربة رده كان بأن الفرق كبير ، وإعترف  استاذنا بان صوته قد خذله خذلاناً عظيما وفوت عليه فرصة قد لا تتكرر ، مع ان الدرس قد انتهى ، *ولكن دورس وتأملات الأستاذ لم تنتهي ، وخرج منها بمعاني عظيمة النفع والفائدة ، منها ان الإسلام في جوهره إحسان وتعامل ومعاملة* ، ( الدين معاملة ) ،  والمطلوب فقه التدين لتنزيل الدين ، فلا يمكن ان تقيم الدين دون ان تفقهه ،  وكثيراً ما يخسر الناس مساحات بسبب غياب الفقه المطلوب  ،  *ثم ان الأمر متصل بسماحة السجان ومزاجه الجميل ، كيف يشترط صوت الآذان الجميل كعربون فكاك او تهريب* ، وفي  هذا دلالة ان الاخوة المسيحيين نجد في بعضهم  سماحة وقلب فطري حنين .

اول مرة إلتقيتُ فيها  بالأستاذ موسى ارحوا  كان صيف 1997 ، عام الشهادة الثانوية بالنسبة لي ، وكان مكان الالتقاء ارض القضارق  *قضروف الخير*  فزرت الأستاذ وفي لهفة وشوق كبير لملاقاة رجلٍ احبه الخلق دون إستثناء ،  ورجل سمعت عنه الكثير من الآباء والمثقفين ، فكانت الدهشة لحظة السلام وهو يحضنك كأب حنين كانه يعرفك من قبل ، فعَرفت نفسي وذكرت له اعمامي وخاصة عمي الذي إغتالته يد العدو الأكبر ، *فلم يسكت الأستاذ وهو يردد كلمة  بُب بُب  ، وليته سكت* ، والكلمة تقال  كدلالة على الإعجاب وتقدير المكانة لشخص ما .

 على المستوى الشخصي حظيتُ بمعاملة خاصة وإهتمام ملحوظ من قبل استاذنا موسى ارحوا ، *فكان يسأل عني وتصلني دعواته  من بعيد ، ويشجعني ويَهون علي الطريق من قريب ، فلست مبالغا ان قلت فقد كان لي الأستاذ موسى سنداً  واباً حقيقيا ،  ولا شك بفقده فقدتُ ذاك السند وانكشف ظهري  المستور سنوات وراء ذاك الظهر الكبير .*

بلاشك إسم الأستاذ موسى ارحوا سيُكتب  على صفحات من ذهب ، فلئن غادر هو الحياة ، لكنه ترك اثراً باقيا في الحياة ، وهو ما ينفع الناس ،  وترك أجيال متعلمة نالت من علمه وخيره الكثير ، *عاش استاذنا حياة الكبار ورحل رحيل الأتقياء الأطهار* ، وترك من ابنائه ذرية بررة ، خيار من خيار ،  ذرية لم تكتفي او تتكيء على النسل الشريف ، بل هي الأخرى عافصت الحياة وتكبدت مشاق التعليم ، فكانت وفيّة لنذر والد نذر نفسه للتعليم .

حياة الأستاذ والمربي الكبير موسى ارحوا  حياة حافلة بالعطاء والمساهمة في شتي الميادين ، حياة بدأت بالعلم وانتهت بالبحث والتأليف والنظر المعرفي ، كما  اهتم استاذنا موسى ارحوا بقضايا المجتمع الارتري بصفة عامة والمجتمع الاساورتاوي بصفة خاصة ، وفي هذا الإطار جاء كتابه الموسوعة  *بنو أساور عبر التاريخ* ، وتميز الكتاب كمساهمة معرفية بالعمق والإتزان والموضوعية .

  هذه المساهمة المتواضعة  ليس المقصد منها تغطية حياة وجوانب الأستاذ موسى ارحو  ، فذاك إمرُ محال  في نظري ، *كما ان قلمي لم يتعود بعد  ان يكتب عن الشخصيات الكبار* ، ومن ناحية اعتقد بأن هناك من هو اكفأ وأجدر بالتوثيق  والكتابة عن الراحل ، ولاشك معارف الأستاذ وتلاميذه  سيرفِدوننا بمقالات ثرة  تُؤرخ لحياة العلامة موسى ارحوا ، *ونحسب الإبن البار الأستاذ ناصر موسى ارحوا من زمرة المجتهدين الذين ينتظر منهم الكثير .*

   الفقد فقد كبير والمصاب جلل ،
*حلف الزمانُ ليأتين بمثله*  ***
                   *حنُثت يمينكُ يازمانُ فكفِرِ*
برحيل الحاج موسى ارحو خسرت الدعوة الإسلامية ومنابر التوعية وجمعيات التعليم الكثير ، وفقدت رمزاً ومناصراً صلباً ، لم يتراجع كما تراجع الكثيرون في زمن الفتن والامتحانات ، المهم  لا نقول إلا ما يرضى الله ، إنا لله وإنا إليه راجعون  ، اللهم اغفر لعبدك السمح الفقير موسى ارحوا ، وادخله فسيح جناتك  ، وألهم أهله وذويه الصبر وحسن العزاء .

بقلم / عبدالواسع محمد شفا
الخرطوم  /   22/06/2020

ليست هناك تعليقات: