30‏/12‏/2010

أبـــــــــــــــــــــــــــي

 بقلم : سيهل كيوان
وهذه أوّل مرة أكتب وأنا متأكد بأنك لن تقرأ ما كتبت، ولن يستطيع أحد أن يخبرك بما كتبت،كما كان يحدث خصوصاً بعدما ضعف بصرك......
لن تقول لي مبتسماً 'جعلت من فلان قصة..وهل قرأ فلان ما كتبت عن والده'!
ما أصغر الكلمات في حضرة صمتك الأبدي..
ما أضعفني أنا المتمسّك بقشة الحياة أمام يقين غيابك الأبدي...
يا لجبروت ابتسامتك الأخيرة قبل الرحيل...
يا لهذه المواجهة القنوعة الراضية الفذة مع الموت....
كلماتك الأخيرة..'الله يسهل عليك ويرضى عليك يابا...دير بالك على أمّك يابا...' دعاؤك الحار لزوجتي وأبنائي...

محاولتي الجديّة الأخيرة لثنيك عن تدخين السيجارة الأخيرة..وأنت تبتسم وتقول:'إن أصعب شيء على المدخن هو أن يطفئ سيجارته بعد إشعالها'، دخّنتها رغماً عني وأنت تسعل وتؤكد بيقين..'ما عادت تفرق... 'ثم توضح ممازحاً:هذه هي الزاوية الوحيدة في المستشفى التي يُسمح فيها بالتدخين لأن نزلاء هذا القسم مودّعون..هل تعرف قصة مشنوقي الشام'...
جزدانك الأسود الصغير الذي عرفه الجميع، إذ كنت تسرع لإخراجه من جيبك أو من تحت مخدتك...كلما دخل إليك واحدٌ من أحفادك....تعال..تعال خذ هذا...وتعطي بسخاء..
أناقتك التي كانت دستوراً غير قابل للنقض تحت أية ظروف، نظافتك المثالية جسداً وروحاً، الانسجام التام بين ما تفكر به وبين ما تفعله، عزة نفسك، رفضك حتى قبل ساعات قليلة من رحيلك بأن أساعدك على الاستحمام، قلت لي بصوتك الذي هدّه الداء...'إطلع برّا يابا وقف قرب الباب..إذا احتجتك سوف أناديك'...ثم تطهرت واستحممت وتوضأت ربما الوضوء الأخير، لم تنادني، وعلى مهلك تنشفت وارتديت ملابسك ومشطت شعرك الذي بقي غزيراً حتى يومك الأخير، وأعدت صابونة الزيت وفرشاة ومعجون الأسنان والليفة وماكنة الحلاقة إلى مكانها.
إيمانك الهادئ القنوع،إيمان المتيقن من أن الله محبة ورحمة تتسع لكل شيء، ورفضك لدعوات التكفير والتعصّب الأعمى والعنصرية بغض النظر عن مصدرها، آمنت بالإنسانية بلا حدود مكان أو زمان أو عقيدة، آمنت بأننا كلنا من صنع الخالق وعبيده،ولا فضل لإنسان على إنسان إلا بعمل الخير.
إنكارك ومقتك للمظاهر والشكليات وتركيزك على الجوهر...
إخلاصك غير المحدود لأصدقائك وأسرهم ممن تبقوا وممن رحلوا قبلك،كأنهم لم يرحلوا بعد...
استشارك القريب والبعيد واستأنس برأيك، حتى في أعقد المشاكل الاجتماعية، لم تخدع أحداً بكلام معسول، كنت تواجه الجميع بالحقائق سواء أكانت لهم أم عليهم، وتحسن التقدير والحُكم على الأمور برؤية شاملة، فأحبك واحترم رأيك الجميع، وكم منتقد ومعترض عليك راجع نفسه واعترف بصدقك وواقعيتك وغنى تجربتك، وهناك الكثير من القصص التي عرفتُها من أصحابها تشهد على نزاهتك وحكمتك...
بعد نظرك السياسي وتحليلاتك الملفتة، فكم حزنت يوم فرح الآخرون،وكم استبشرت خيراً وتفاءلت يوم حزن وجزع وتشاءم الكثيرون! مشاعرك القومية الراقية الصادقة بلا تعصّب، وقناعتك التي لم تزعزعها النوائب بقدرة أمّة العرب على تجاوز محنها وحتمية استيقاظها وانتصار خيرها على شرها، قناعة تمسكت بها حتى الرّمق الأخير..
صبرك على المرض، لم تئن ولم تشكُ،لم تكن عبئاً على أحد، بل كان هذا أكثر ما كنت تخشاه حتى اللحظة الأخيرة، فبقيت خفيفاً لطيفاً على أسرتك وعلى الأطباء والممرّضين. وأصررت طيلة الوقت على خدمة نفسك بنفسك، تلقيت كل أمر بالصبر وروح الدعابة ورحلت بالضبط كما طلبت وتمنيت قبل أن تصبح عبئاً على أحد:'يا رب تاخذ وداعتي وغبار الطريق على قدميّ'..
لم تكن من أولئك الذين يفزعون أمام دنو الأجل،حكيت لي بهدوء وببساطة مدهشة كيف ستموت، وبالتفصيل كيف يتقدم المرض في جسدك وكيف ستكون النهاية، قلت لي مداعباً 'أنا لم أمت من قبل ولكنني رأيت كيف يموت صاحب هذا المرض'...
أذكر يوم رفضت العلاج الكيماوي وقلت: 'قد يمطّ هذا في عمري بضعة أشهر بلا طعم...لا أريدها' وعدنا يومها إلى البيت من المستشفى وأنا أهتف بتظاهرة ساخرة أمام العائلة والأنسباء...فليسقط الكيماوي...لا وألف لا للكيماوي.
وأنت تبتسم راضياً بقرارك.
كنت تستمع لي كصديق بل كأعز صديق...وتتعامل مع أصدقائي كأنهم أصدقاؤك، تحاورهم وتناقشهم في الأمور السياسية والاجتماعية،وتحكي لهم تجربتك الغنية وتشردّك فتى عام الاحتلال ثم عودتك إلى مسقط رأسك وحقبة الحكم العسكري والتقلبات السياسية في البلاد والمنطقة،فكنت شاهداً صادقاً وواعياً على ما حدث ويحدث، فاحترمك وأحبك ولم يمل من زيارتك والاستماع إليك كل من عرفك لأنك أحسنت الاستماع للجميع.
علمتني أن الصداقة قيمة عليا وليست أمراً عابراً في حياة الإنسان، فورثت وصنت صداقات والدك وحتى جدكّ وحملتها بأمانة ثم نقلتها إلى الأبناء والأحفاد، اليوم بعد رحيلك أحسبها وأجد أنها صداقات متوارثة منذ أكثر من مائة عام تنتقل من جيل إلى جيل..
علمتني أن الرجولة لا تستوي مع الكذب، والصدق أهم صفات الرجل حتى ولو على نفسه...
علمتني أن العطاء ومساعدة المحتاج لا يكونان إلا سراً وليس على المنابر ولا للتفاخر، وأن لا تنسى من أحسن إليك ولو بكلمة طيّبة..
كنت معلمي الأول، فتعلمت منك الكثير حتى وأنت تودّع الدنيا في الدقائق الأخيرة...
والدي الغالي..قلت لي آلاف المرات..الله يرضى عليك..قلت لي آلاف المرات..الله يسهل عليك ويفتحها بوجهك...وها أنا أقولها لك هذه المرة...الله يسهّل عليك ويرضى عليك ويرحمك ويرحم التراب اللي نزل عليك يابا..

ليست هناك تعليقات: