لقد نزح الاخ ناصر رمضان " اونا " صغيرا مع افراد عائلته الى السودان فى ستينيات القرن المنصرم مع اول فوج للاجئين الذين هربوا من المذابح والابادات الجماعية التى كان يرتكبها المستعمر الاثيوبي من حرق القرى والمدن كعقاب جماعى للشعب الارتري انتقاما على اثر قيام الثورة الارترية .
واستقر ناصر اونا مع اسرته بمنطقة سمسم بمعسكر (أم سقطة) الذى أعد خصيصا لاستقبال النازحين الارتري فى تلك الفترة .
و درس الإبتدائية بها وانتقل الى مدينة حلفا وأكمل فيها المتوسطة والثانوية وثم هاجر الى المملكة العربية السعودية بحثا عن فرصة عمل ليحسن بها وضع الاسرة اقتصاديا ، وقد عمل بالمملكة لفترة من الوقت ، وبعد إعلان إستقلال ارتريا قرر العودة النهائية الى الوطن الذى تركه صغيرا ولا يعرف عنه شيء سوى مأساة الحروب ومعاناة النزوح بالفعل قام بالعودة الى السودان تاركا المملكة وحاملا معه حصاد ومجهودات السنين التى حققها فى فترة الاقامة ، املا لكى يعبر الى الوطن عبر الحدود الشرقية للسودان ، وكان يعتقد انه سيضع حدا
لحياة اللجؤ والتشرد بهذه الخطوة الهامة .
وبعد فترة وجيزة قام ببيع بعض من ممتلكاته فى السودان وأبقى بعض من ممتلكاته التى يستطيع نقلها والعبور بها الى ارتريا ، وفى مطلع العام 1995 م قام بحزم أمتعته ومدخراته وقام بشراء بص للنقل العام وحمل عليه اغراضه وتوجه به صوب الوطن مع افراد اسرته واستقر بهم المقام بمنطقة " تبلدية " باقليم القاش بركة .
وما ان مكث فترة وجيزة انتقل والده الى الرفيق الاعلى و قام بتحمل مسؤولية رعاية أشقاءه ، مما اضيف اليه عبئ اخر بجانب اسرته الصغيرة ، وقام بشراء وتربية بعض المواشي بالاضافة الى تولى قيادة " البص الذى كان يعمل فى النقل العام " خط (توكمبيا - اوقاروا - هماي شغلى) ، واستمر على هذا الحال لثلاثة اعوام يقوم بتسهيل حركة الناس ونقلهم بين تلك المناطق ، فمن عرفه كان يحبه بإخلاقه النبيلة وصفاته السمحة وتعامله الراقى وتواضعه الجم وكرمه الفياض ، وان ما لديه لم يعد ملكه وقد ترك اثرا طيبا بين اهل المنطقة .
ونسبة لطبيعة وظروف عمله التنقل من منطقة الى منطقة والعمل فى خط اخر بعيدا عن المنطقة التى تقييم فيه اسرته احيانا قد تمر عليه شهور دون ان يرى اسرته ، وبين الفين والاخرى كان يأخذ عطلة قصيرة ويترك البص لاحد اصدقائه حتى لا يتسبب فى تعطيل الناس وحرمانهم من السفر ، ليقضى بعض الوقت مع اسرته بمنطقة " تبلدية " ، حاملا معه الهدايا والعطايا ليرسم الابتسامة فى وجوه اخوانه الإيتام ويعيد اليهم الفرحة المسروقه . وبالمثل يعوض الزوجة المحرومة التى تتحمل فترة غيابه وتتكبدا اعباء تربية الاطفال بمفردها .
وفى مطلع العام 1998 قبل ان تندلع حرب الحدود بين اثيوبيا وارتريا ، بعد انقطاع دام حوالى شهرين من اسرته ، قرر السفر لقضاء وقت قصير مع الاسرة فى تبلدية ليقف بجوار زوجته الحبلى فى طفلها الثانى ، ليحسن استقبال المولود الجديد الذى سيضاف الى افراد العائلة بينما كان يحضر للسفر ، فى الليلة المشؤومة حضر عدد من زوار الليل الملثمين الى المنزل الذى كان يستأجره بمنطقة " توكمبيا" ، فقاموا باقتحام المنزل وكسروا الباب وقاموا باقتياده لمكان غير معلوم تاركين خلفهم المنزل مبعثر والنوافذ مخلعه ، وعند الصباح حضر صديقه من اجل ان يودعه وثم يتولى قيادة البص ويعمل فى نقل الناس حتى يعود ناصر من زيارة اهله ،
إذ وجد المنزل كغير عادته بينما البص يقف فى قلب المنزل ، فصاح ينادى ناصر اين انت وما الذى حدث ؟؟ ولا احد يجيب . اذ يتفاجأ بعدم وجود صديقه بالمنزل والنوافذ مفتوحه والباب مخلوع والاغراض مبعثرة ، فيعلم ان هناك امر ما ، قد حدث لصديقه !!!!!
فيسرع ويهرول نحو مركز شرطة " توكمبيا " ويروى لهم القصة ويخبرهم بما شهده فى منزل صديقه ناصر ، ويطلب منهم بفتح بلاغ و التوجه صوب المنزل من اجل الوقوف على الحادث والتحقيق فى الامر . الا ان أفراد الشرطة لم يعيروا اى اهتمام لحديث الرجل فيصرخ باعلى صوته ، الرجل مفقود والباب مخلوع والنوافذ مكسرة وانتم لا تحركون ساكنا ما الذى يحدث ؟؟ !!!! ، قام مدير المركز بالرد عليه بلهجة قوية تتخللها بعض التهديدات وي طلب منه جلب مفتاح المركبة فورا وتسليم المفتاح الى ادارة المركز . فقام بالاتصال بزوجة ناصر واخبرها بالامر وطلب منها الحضور لمركز توكمبيا لاستلام مفتاح السيارة .
وأتت الزوجة مسرعة وهى حبلى تتكبد مشاق السفر من تبلدية الى توكمبيا سائلة عن زوجها المختطف وتود ان تعرف ماحدث له فى تلك الليلة والى أين اقتيد ؟ وبعد ان وصلت منطقة توكمبيا سالت صديقه ما الذى حدث لزوجى واين مكانه ؟ فلم تجد اى اجابة لاسئلتها ، فتوجهت صوب مركز الشرطة وبرفقتها عدد من اصدقاء زوجها ، وعندما سألت مدير المركز عن وجهت زوجها وماذا حدث له ؟ اذ يطلب منها إستلام مفتاح السيارة والتوقيع على المحضر المعد مسبقا بشأن الاستلام ، وبالمثل يطلب من الشخص الذى جلب المفتاح التوقيع بجوار زوجة المختطف ، وثم يطلب منهما الرحيل والانصراف وعدم تكرار السؤال بشأن الاخ ناصر ، واخلاء المكان بصمت حتى لا تواجههم اجراءات قانونية صارمة .
تلفتت المسكينة يمنة ويسرى اذ وجدت نفسها حائرة وامامها عدد من رجال الشرطة المدججين بالسلاح ، ينتظرون الاوامر من قائدهم لفعل شيء ما حيالها ، انهارت المسكينة من البكاء وسقطت مغشية على وجهها ، وحملوها الناس الى حيث تقف السيارة ، وثم صعد صديق ناصر ليقود المركبة ، وعادت الزوجة المكلومة على ظهر مركبة زوجها المختطف الى منطقة تبلدية .
وثم قامت بتحمل أعباء المركبة من متابعة واشراف فى سبيل توفير إحتياجات اطفالها وافراد عائلة زوجها الايتام التى كانت تمثل المركبة مصدر رزقهم الرئيسي ، الا ان الزوجة الغلبانه لم يكن لديها أدنى إلمام ومعرفة بشأن المركبات والسيارات ، وعجزت بمتابعة الثروة الحيوانية التى تركها زوجها فى الخلاء مع الرعاة ، تجد نفسها ما بين تربية صغارها ورعاية اشقاء زوجها الايتام ومتابعة المركبة ، وكثر عليها الحمل وإزدادت مسؤولياتها ولم تجد من يعينها وتقف حائرة وعاجزة .
ومع هذا كله تسافر من مدينة الى مدينة ومن سجن الى سجن بحثا عن زوجها المختطف ، فتنفق وتصرف المال الذى كانت تدخره فى هذه السفريات ، وكلما تسمع خبر ما عن زوجها ، تقوم بإلتحاف ثوبها وحزم حقيبتها قاصدة تلك المكان تاركة خلفها مسؤوليتها واعباءها المنزليه . وعندما تصل الى مكان المعتقل الذى سمعت بوجود زوجها فيه ، تتفاجأ بالاسئلة التى توجهها اليها الشرطة . من الذى اخبرك بوجود زوجك هنا ؟. وكيف تحصلت على هذه المعلومة ؟ وفى نهاية المطاف يطلب منها الرحيل والعودة من حيث اتت وعدم تكرار السؤال عن زوجها مرة اخرى .
لقد جابت كل انحاء ارتريا سائلة عن زوجها لم تترك ركنا ولا سجنا والا ذهبت اليه ، وزارت كل المعتقلات وترددت على كل مراكز الشرطة ولم تجد اثرا لزوجها المختطف .
وعندما كانت تسافر الزوجة للسؤال عن زوجها ، كانت والدة المختطف ناصر تقوم برعاية أحفادها وتقف بجوارهم حتى تعود الزوجة حاملة معها بعض الانباء عن ابنها ، الا انها فى كل مرة كانت تصاب بخيبة امل وتتجرع الالم والحسرة وتبكي ابنها ليلا عن طرف النهار حتى فقدت بصرها من شدة الحزن .
فتضيع وتتلاشي الثروة الحيوانية التى تركها ناصر ولم تجد من يهتم بها ويسأل عنها ويختفى الرعاة مع تلك المواشى ، وتعجز الزوجة عن ملاحقتهم مع كثرة مسؤولياتها وانشغالها احيانا بالسيارة والامور المنزلية والسفر الى المعتقلات والسجون للسؤال عن مكان زوجها .
تمر السنين و يظل المواطن ناصر اونا مختفى قسرا ، وتضع الزوجة حملها وتكبر المولودة ويطلب احد شباب المنطقة يدها للزواج وتتم الموافقة له ، وفى ليلة الزفاف تقف العروسة وسط اقرانها وهى ترتدى الفستان الابيض ويكسوه الحزن ، تتفحص الوجوه وتدقق النظر املا ان تجد والدها الذى لم تراه قط وسط الحضور ، وهى الاخرى تصاب بخيبة امل وينكسر قلبها وتذرف الدمع فتتلاشى الاحلام وتفقد طعم الفرحة ولم تجد رائحة والدها . وتنتهى تلك اللحظات الحزينة وتظل الفرحة منقوصة مهما شاركها الناس مع عدم حضور والدها ، وتنتقل العروس الحزينة الى منزل الزوجية حيث تجتمع مع اناس لم تعرفهم ولم تألفهم من قبل ويسألونها عن والدها واخباره ، وتجد نفسها خالية من زكريات الوالد وحائرة امام السؤال فتطلق العنان لدمعاتها لكى تجيب على هذا السؤل ، والجميع يزرف معها الدمع وتنتهى الجلسة .
وتمر الايام وترزق العروسة الصغيرة الحزينة باول مولود يضاف الى افراد العائلة ويصير السيد ناصر اونا جد دون ان يدرى انه جد ، ويحرم الحفيد من رؤية جده مثل والدته .
كلما تخلوا العروس مع نفسها تبكى والدها لانها لم تتعرف على ملامحه ولم تستطيع ان تروي لإبنها زكرياتها وطفولتها مع والدها المختطف ، ياترى كيف يكون حال الحفيد الذى خلق وهو لا يعلم شيء عن جده ولا تستطيع والدته ان تخبره عن جده شيء !!!.
وفى ظل غياب ناصر اونا صعدت روح والدته الى السماء وقد كساها السواد وانفطر قلبها و جفت مقلتيها من الدمع حزنا على ابنها حتى فقدت بصرها .
وبفقد والدة ناصر فقدت زوجته من كان يشد عضضها وتستمد منه القوة ، فعجزت من متابعة مركبة النقل وقامت بركنها وايقافها امام المنزل حتى يعود صاحبها ، ويظل البص متوقف امام المنزل الى هذه اللحظة ويمتلئ الحديد بالصدأ ويخرج من الخدمة نهائي ، وتضطرت الزوجة لكى تتفرغ لرعاية حفيدها وتعين بنتها فى تربيته.
وللاسف لم يعد ناصر اونا المختطف الى منزله الى هذه اللحظة ، ولا احد يعرف مكان اعتقاله وليس هناك اى تواصل بينه وبين العالم الخارجى ولا يعرف ظروف اعتقاله وماهو مصيره !!!! .
ان حال المواطن ناصر اونا كحال العشرات الالاف من الارتريين الذين تم اختطافهم من منازلهم ليلا عبر زوار الليل الملثمين ، ولا احد يعلم عنهم شيء سوى سجانيهم وجلاديهم .
.............. لا ضاع حق وراءه مطالب .....................
بقلم / محمد امان ابراهيم انجبا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق