بقلم : صالح إبراهيم انجابا
اسمرا تلك المدينة الحالمة التى تنام فى حضن المرتفعات الإرترية لم تصدق حين رأت فلذات اكبادها يعودون و يقبلون ترابها الطاهر!! لم تصدق ظلام الإستعمار ذهب واشرقت البلاد بنور الحرية!!.نعم الأجواء الإحتفالية عمت كل الطرقات والبيوت والمقاهى التى يفوح منها نكهة البن الإرترى الأصيل, وفى خضم هذا العرس الإرترى البهيج ترقص جمعة مع كل المناضلين و على كتفها الكلاشن الذى صاحبها لمدة عشرين عاماً.
هذه الفتاة الرشيقة ذات القوام المتوسط والبشرة البرونزية االجذابة والشعر العربى الإفريقى الطويل المجعد تركت اسرتها التى تتكون من والدتها وشقيقيها وشقيقتها الصغرى .غادرت عشها الآمن فى مدينة عدى قيح قلب المرتفعات النابض بالجمال والطقس المعتدل وعمرها كان عشرون خريفًاً حاملة فى اعماقها روح الشباب والثورة العارمة.
قبل الإلتحاق بركب الكفاح والنضال كانت تتابع اخبار الإنتصارات فى ركن داخل حظيرة الدار, وترقص على انغام الأناشيد الثورية القادمة عبر الأثير من محطة صوت الجماهير الإرترية المنبعثة من راديو فيلبس, الذى يذكرها بوالدها المتوفى, حتى خرجت فى احدى الليالى الفاحمة وانخرطت فى صفوف مقاتلى الجبهة الشعبية لتحرير إرترية.
منذ ذلك التاريخ انقطع حبل التواصل مع اسرتها وركزت جهدها لتحرير الأرض . فى هذه الرحلة النضالية طافت كل المناطق الإرترية ,وتسلقت الجبال الشاهقة التى تعانق السحاب , وتسلقت اشجار الدوم العالية ,وسبحت فى نهر سيتيت, وسقت صحراء البحر الأحمر بعرقها لتنبت بذرة الأمل ,وصاحبت الوحوش البرية التى دفعت ثمن الحرية ايضاً. .
تحقق الإستقلال وصار واقع ملموس. نعم انها الآن فى العاصمة الإرترية, وسوف تقضى بضعة ايام فى القاعدة العسكرية الواقعة فى تخوم مدينة الربيع الدائم اسمرا, وبعدها سوف ينصرف الجنود لمقابلة ذويهم.
الليلة الأخيرة كانت ثقيلة تحمل فى طياتها هموم كالسحاب المتراكم و احاسيس مختلطة ومتمازجة تسأل نفسها " هل سترى اسرتها بعد هذا الغياب؟" الخوف تسلل الى قلبها الذى لم يستطيع ان يدخله فى احلك المنعطفات الخطرة .التساؤلات بدات تدور فى عقلها وخاطبت نفسها "قائلة هل الأسرة تسكن فى نفس الحارة والبيت ام تشردت كما تشرد معظم ابناء الوطن ؟" وهل الوالدة على قيد الحياة؟وهل وهل وهل؟ اسئلة مترابطة كسلسلة تلال وجبال المرتفعات. بدأت تتذكر دكان الحارة الصغير والفرن البلدى والمدرسة وصديقاتها راضية وسنايت وفاطمة . شوق اللقاء فجر فيها شلالات من الأحاسيس تندفع فى اودية الذكريات الحلوة وايام الطفولة البريئة التى لها مواقع فى عقلٍ انشغل بالنضال طيلة السنين السابقة لتحرير بلدها الحبيب.
وصلت جمعة عدى قيح التى تغيرت ملامح وجهها الجميل. التقرحات بارزة فى جدران المبانى التى تذكرك بالمعاناة التى مر بها سكان المدينة الصامدة, والحزن تنطقه البيوت المحروقة, والمقاهى خالية من الرواد الذين كانوا يملأون السوق حيوية ونشاط . فى اثناء سيرها نحو البيت حاولت تتذكر الطريق المتعرج الذى يوصلها الى باب الداروتفحصته وترددت ولكن حاسة ذكريات الطفولة الراسية فى الذهن قادتها دون عناء. ارتهكت مفاصلها و سيرها كان بطيئاً خوفاً من المجهول وكانت تحسب كل خطوة وثانية حتى وصلت البيت وفجأة بدأت تذرف دموع ساخنة وانتحبت كطفلة صغيرة لأن الموقف من اصعب المواقف الإنسانية التى مرت بها. عند طرق الباب انصب العرق من جسمها كسيل جارف وقلبها خفق وخفقانه يزلزل الوجدان والأعصاب . طرقت الطرقة الأولى ويدها ترتجف ودون ان تحس طرقت طرقات متتابعة وقوية وجاء صوت ضعيف كأنه يخرج من اعماق كهف سحيق سائلاً " من الطارق؟" جمعة لم ترد بل إنتظرت حتى أتى صاحب الصوت.فتحت الباب إمراة كبيرة فى العمر سألت"من انت؟"ردت " انا جمعة ". وقفت المرأة لخمس دقائق وتمعنت وجهها وقالت" اسفة لا اعرفك ولكن يا بنتى اشتم فيك عبق القرابة فكلمينى من تريدين؟" صُدِمت جمعة وصمتت لبرهة وقالت"اين اسرة سعيد احمدين صاحبت المنزل؟" تعتعت المراة وغمغمت وانهمرت الدموع من عينان آفلتان غائرتان فى عمق سماء وجهها الذى جعدته كدمات نوائب الدهر القاسى وقالت "من تكونى لتسألى عن اسرة سعيد احمدين؟""ولماذا تعيدى شبح الأحزان فى قلبٍٍ اوهنته لكمات السنين المتراكمة ؟"" ردت قائلة انا بنت سعيد احمدين التى التحقت بالثورة قبل عشرون عاماَ "وفجأة جلست المرأة على ألأرض واضعة يديها النحيلتين على رأسها وصرخت "جمعة من صلب سعيد احمدين واختى الغالية صالحة عادت لا اصدق اهذا حلم ام خيال!!! وقامت وحضنتها على صدرها الذى يئن من الحسرة وقالت ادخلى معى ادخلى الى بيتك واجلستها وجلست معها على سرير فى وسط الحوش وصارت تقبلها مرات ومرات وتقول" الحمدلله عدت لتعيدى البسمة الى وجهٍٍكان عبوساًً لزمنٍ طويل ,نعم كم انا فرحة وكم انا سعيدة بقدومك" جمعة قاطعتها وسألتها “ارجوك اخبرينى اين امى واخوتى ؟ارجوك اخبرينى اين افراد اسرتى ؟ هل حدث لهم مكروه؟” بدأت المراة تبكى من جديد وذكرت قبل عشرة اعوام تقريباَ اثناء المعارك التى حدثت فى ضواحى المدينة وقعت قذيفة هاون على البيت وقتلت اخوك وامك فوراً. جمعة لم تتمالك نفسها من سماع الفا جعة ووقعت مغشية لمدة نصف ساعة تقريباً وحين افاقت سألت اين اخى الصغير واختى الصغرى؟" فردت المرأة " اخوك عمر قدهرب قبل تلك الحادثة بسنتين و لجأ الى السودان وسمعنا من بعض الأقارب هاجر الى بلاد الخواجات ومنذ تلك الفترة إنقطعت اخباره و اما اختك موجودة بخير ولكنها لا تسكن فى البيت لأنها فى الحقيقة فى الحقيقة وتلجلجت " وقاطعتها جمعة قائلةٍ ارجوك اخبرينى ماذا الم بها؟" صمتت الحاجة زهرة لبرهة وقالت" اختك سعيدة بعد الحادث المفزع فقدت الذاكرة اى اقصد " قاطعتها للمرة الثانية وقالت " تقصدين اختى مجنونة" ردت بنبرة حزينة نعم يا بنتى هذه هى الأقدار علينا ان نرضى بأمر الله" وفجأة قبل ان تكمل الحاجة زهرة ركضت جمعة خارج المنزل بسرعة جنونية وذهبت تبحث عن اختها فى سوق المدينة و لم تجدها وسالت احد المارة " اتعرف اين سعيدة؟" فأجاب الرجل " سعيدة المجنونة ستجديها عند محطة البصات" .
كان منظر سعيدة مخيف. شعرها منكوش ومتطاير وتلبس فستان طويل واسع وبالى وعلى قدمها اليسرى صندل واحد قديم وتمسك فى يدها صورة من صور المجلات وتقول للمارة "هل رأيتم امى وافراد اسرتى ؟ ارجوكم اخبروهم انا فى إنتظارهم عند محطة البصات" المشهد كان صعب جداً فجلست جمعة القرفصاء واجهشت بالبكاء وتمنت لو كانت شهيدة . اسودت الدنيا فى عينيها وتبددت وتبخرت كل الأحلام الوردية التى انتظرتها ودفعت ضريبة الحرية مرتين مرة فى الأدغال ومرة فى فقدان اسرتها يا له من جرح لم يندمل حتى بعد الإستقلال.
جمعة : اسم يطلق بلهجة الساهو على المرأة
عدى قيح مدينة تقع فى المرتفعات الإرترية فى محافظة اكلوقوزاى
بلاد الخواجات : المقصود بلاد الغرب
هذا الرابط ادناه لموقع الحوار المتمدن الذى تم نشر القصه فيه :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=302116
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق